يوميات ربيع جزائري يزهر متأخراً

د. الكبير الداديسي
خابت تكهنات معظم المحللين الذين راهنوا على سقوط النظام الجزائري مع ارتدادات الربيع العربي، إذ كانت التوقعات تشير إلى تطاير شرارة الثورات العربية إلى الجزائر التي كانت على مقربة من فوهة البركان (تونس وليبيا) ولوجود تشابه بين النظام الجزائري والأنظمة التي تهاوت بعد أن كان للعسكر اليد الطولى فيها (العراق، سوريا، ليبيا، مصر، اليمن…) كانت تلك التوقعات تستند على معطيات منها اختفاء كل أبناء جيل عبد العزيز بوتفليقة من على الكرسي السياسي العربي فهو من جيل الحسن الثاني والملك الحسين وحافظ الأسد وحسني مبارك والقذافي .. إضافة استنفاد خطاب الشرعية الثورية التي بني عليها النظام الجزائري لمخزونه التاريخي وظهور جيل لا يكاد يرى في الشرعية الثورية التاريخية أية مشروعية … ناهيك عن قرب الجزائر من فوهة بركان الربيع العربي، فالثورات العربية انطلقت من حدود الجزائر الشرقية واكتسحت دول شمال إفريقيا شرق الجزائر، والتاريخ يؤكد تأثر هذه الدول بنفس العبق كلما مر على إحداها والزحف العثماني خير دليل على ذلك .. دون نسيان شعور الإنسان الجزائري باستشراء الفساد في كل ثنايا النظام ومؤسسات الدولة الجزائرية وتذمر بعض الجزائريين من تحكم العسكر في كل دواليب الدولة، مما جعل من المؤسسة العسكرية دولة فوق الدولة جنرالاتها يوزعون موارد الاقتصاد في ما بينهم ويتحكمون في مفاتيح التصدير والاستيراد دون حسيب أو رقيب .. في دولة تستمر في الاعتماد على المحروقات .. أسباب كثيرة إذن كانت ترشح اندلاع الثورة في الجزائر قبل أي بلد عربي آخر لكن لا شيء من ذلك حدث، واستطاع النظام الجزائري أن يتجاوز عاصفة الربيع العربي بسلام، بل لم تزد تلك الهزات النظام إلا ثباتا بعد أن تمكن بريع البترول والغاز من تلميع صورته وشراء الذمم بمسكنات رفع الأجور، توزيع السكنات والإكراميات، دعم المواد الأساسية، أعطاء قروض دون فوائد مع إعفاءات ضريبية وتقديم معونات مالية للأسرة المعوزة بعد أن وفرت سيولة لا بأس بها من عائدات البترول وسياسة طبع النقود… مستفيدا من خوف الجزائريين من السيناريوهات البديلة: (العودة إلى العشرية السوداء، تدخل قوى خارجية ، استنساخ التجارب الفاشلة) التي كبحت جماح الجزائريين. لكن ترشيح عبد العزيز بوتفليقة إلى عهدة خامسة قلبت كل التوقعات وقلب ظهر المجن للنظام ليزهر الربيع العربي بالجزائر متأخرا من خلال مسيرات في كل الولايات مسيرات مليونية كل جمعة تكاد تكون نسخة طبق الأصل للتجربة السورية، وإن ظل الجزائريون يرددون كما ردد المصريون و السوريون (الجزائر ليست مصر وليست سوريا).
ولنحاول تتبع أهم مراحل الحراك الجزائري الذي انطلق يوم 10 شباط حينما أعلن بوتفليقة في رسالة ترشحه وإستراتيجيته المستقبلية القائمة على تعديل الدستور، وقانون الانتخابات والتفكير في ندوة وطنية عامة، وتكون أولى المسيرات المليونية يوم الجمعة 22 شباط 2019، عقبتها وعكة صحية أكسبت الرئيس المنتهية ولايته بعض التعاطف خاصة بعد سفره للعلاج بسويسرا بعد يومين من المسيرة المليونية، لتتوسع قاعدة الاحتجاج ضد ترشيح الرئيس بخروج طلبة الكليات وتكون أولى المسيرات الطلابية يوم 26 شباط، يضاف إليهم في اليوم الموالي رجال الصحافة والإعلام والعاملون في الشبكات التلفزيونية مطالبين بحرية التعبير والحق في الوصول للمعلومة واستمرت تظاهراتهم لليوم الموالي (28 شباط) مما أشعر النظام بجدية المسيرات فكان تصريح الوزير الأول (أويحيى) تحذيريا عند تشبيه بداية التظاهرات في الجزائر بمثيلاتها في سوريا (بداية التظاهرات بالورود).
وما أن هل شهر اذار حتى عمت المسيرات كل الولايات، وكانت مسيرة الجمعة فاتح مارس ضربة قوية للنظام نتج عنها مباشرة إبعاد عبد المالك سلال عن رئاسة حملة الرئيس بوتفليقة وتعويضه بعبد الغني زعلان في اليوم الموالي (2 اذار) الذي سيتكلف شخصيا بإيداع ملف ترشيح عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية في آخر يوم من آجال إيداع ملفات الترشيح (3 اذار) ليقطع الشك باليقين ويؤجج غضب الرافضين لترشح الرئيس المريض ويكون ذلك سببا في ثورات الطلبة والأساتذة الجامعيين في مسيرات حاشدة يون (5 اذار) انضافت إليها مسيرة المحامين التي توجهت إلى المجلس الدستوري وتقديم عريضة تدعو إلى احترام الدستور ومن ترشيح الرئيس المريض، وعاد الصحفيون للتظاهر بعد محاولة خنق بعض المنابر الإعلامية بمنع الإشهار عنها (الشروق والنهار مثلا). وفي محاولة لتهدئة الأوضاع استغل النظام عيد المرأة ليوجه بوتفليقة رسالة من سريره بسويسرا يوم (7 اذار) إلى الأمهات يدعوهن إلى منع أبنائهن من التظاهر حفاظا على أمن الجزائر، لكن ردت فعل الجزائريين كانت أقوى يوم الجمعة 8 اذار بمسيرات تقدمتها النساء وكانت مادة إعلامية لمعظم القنوات والمنابر الإعلامية العالمية شعارها رفض ترشح الرئيس ليخفف من حدة تلك المسيرات خبر عودة الرئيس إلى البلاد يوم 10 اذار واستقباله بقصر زيرالدة لشخصيات عسكرية (قايد صالح) ومدنية نتج عنها إقالة الوزير الأول أويحيى وتعيين وزير الداخلية نور الدين بدوي وزيرا أولا ورمطان لعمامرة نائبا له وأعاد المبعوث الأممي لخضر الإبراهيمي للساحة السياسية الداخلية من خلال تقديمه الخطوط العريضة لسياسة الرئيس في المستقبل القريب وتطمين الجزائريين على صحة الرئيس. ولتحجيم المسيرات صدر قرار يقضي بتقديم عطلة الربيع عشرة ايام عن موعدها لتبدأ يوم 10 اذار بدل 21 من الشهر نفسه، دون أن يجني النظام من تقديم العطلة وتمديدها أي مكاسب. وأمام تزايد الضغط أضطر النظام يوم 11 اذار إلى إعلان سحب الرئيس لترشحه، وإصدار مرسوم يقضي بتأجيل الانتخابات ليتغير شعار المسيرات من رفض الترشيح للعهدة الخامسة إلى رفض تمديد العهدة الرابعة في مسيرة الطلبة والمحامين يوم 12 اذار، وعلى الرغم من محاولة الوجوه الجديدة (لعمامرة، بدوي والإبراهيمي) في خرجات متعددة تقديم مسكنات و وعود لتخفيف حدة تظاهرات الجمعة الرابعة فإن جمعة 15 اذار خيبت أفق انتظار النظام برفعها لسقف المطالب والدعوة الصريحة لتغيير النظام ورحيل كل أذنابه والترحيب بالشرطة والأمن في صفوف المتظاهرين مدعومة بانضمام القضاة والأساتذة لمسيرات شعارها ضرورة تغيير النظام. وأمام شعور النظام باشتداد الخناق الداخلي طار نائب الوزير الأول (رمطان العمامرة) في رحلات مكوكية إلى الخارج (إيطاليا روسيا ألمانيا) في 18 اذار مما زاد في تأجيج الوضع الداخلي واعتبار رحلاته تدويلا للقضية خاصة بعد تصريح وزير خارجية روسيا الداعي إلى عدم تدخل القوى الخارجية في القضية الجزائرية. وبرغم تدخلات رئيس أركان الجيش الذي ما فتئ يكرر أن الشعب والجيش في الجزائر جزء لا يتجزأ وأن النظام مازال قادرا على العطاء فإن بوادر تصدع النظام بدأت تظهر للعيان من خلال إعلان أكبر حزبين حاكمين انضمامها للحراك الجزائري يوم 19 اذار مما جعل كرة ثلج المطالب تتدحرج على تراجعات النظام وكان الرد يوم الجمعة 22 اذار برغم سوء الأحوال الجوية برسائل تؤكد استمرار المسيرات السلمية حتى النصر ورفض كل مبادرات السلطة ورهاناتها على فتور التظاهر وهو يضفي مزيدا من الضبابية على مستقبل النظام الجزائري.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.