بقلم /د. سعد ناجي جواد..
في هذه الأيام وأنا منشغل بوضع الخطوط الرئيسية لمقالة عن الذكرى العشرين لاحتلال العراق، على أساس ان انشرها في اليوم المشؤوم (9 نيسان) الذي دنّست فيه أقدام الغزاة أرض بغداد العروبة، بغداد التاريخ القديم والحديث، بغداد درة العرب وعاصمة الحضارة والتقدم، وفي وقت كان فيه الغرب يعيش في ظلمات، حتى دمرها هولاكو، ثم عاد بوش الصغير وبلير الأصغر ليدمروها من جديد، بالتعاون مع قوى اقليمية وأخرى محلية تدعي انها تنتمي اليه.
حدث قبل يومين ما ذكرني بالمثل القديم “رمتني بدائها وانسلت”، وبمثل عراقي مشابه (عيرتني بعارها وركبتني حمارها) الوضع الدولي مليء بالمواقف المضحكة والتي لا بدَّ ان ترسم بسمة ساخرة على وجه كل ذي عقل عندما يلاحظها.
والقرار الذي صدر عن المحكمة الجنائية الدولية القاضي بتوقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أحدث مثل على ذلك ولسببين، الاول ان المحكمة تتصور بانها قادرة على الذهاب الى موسكو والقاء القبض على الرئيس الروسي وجلبه (مخفورا) لكي يمثل أمام محكمة (دولية) لتحاكمه، (بالمناسبة فان روسيا ليست عضواً فيها)، والثاني هو التهم التي (حركت ضمير) قضاة المحكمة وجعلتهم يصدرون أمر التوقيف، وهو لان بوتين ارتكب جرائم ضد الانسانية في اوكرانيا، وخاصة بحق الاطفال، وأخطرها هو (نقل الاطفال الاوكرانيين الى داخل روسيا!!).
ويبدو ان قضاة المحكمة مصابون بمرض فقدان الذاكرة أو بالأصح عمى البصيرة وتناسوا جرائم الولايات المتحدة وبريطانيا التي نتج عنها قتل ما يصل الى أربعة ملايين فرد من الشعب العراقي منذ عام 1990، تاريخ ما سُمّي بحرب الخليج، وفي الحصار الظالم اللا انساني الذي استمر 13 عاما تقريبا، وبعد ذلك في الغزو الفاشي عام 2003 وما تلاه. ونسبة كبيرة من هؤلاء الضحايا هم من الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يمكن لأي انسان ان ينسى اعتراف سيئة الصيت اولبرايت حول قتل أكثر من نصف مليون عراقي، وكيف اعتبرته أمرا مبررا ومقبولا، (وهذا بحد ذاته اعتراف يستوجب المحاكمة)، ناهيك عن أطفال الفلوجة والبصرة الذين استخدمت ضدهم كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا وشوهتهم، ولا تزال آثار تلك الأسلحة تُنتج أطفالا مشوهين عند الولادة، كل هذه الجرائم لم تحرك ضميراً ولا حرص المحكمة على الدفاع عن البشرية وحقوق الانسان في العراق، وربما اعتبرتها هي أيضا أمورا مبررة، كما قالت اولبرايت ومعها مجرمو الحرب الآخرون مثل رامسفيلد وتشيني وكولن باول وولفوتز وغيرهم، وعلى رأس كل هؤلاء بوش وبلير. هذه الجرائم التي مازالوا يتحدثون عنها وعن بشاعتها بصورة لا ارادية عندما يتكلمون عن الحرب في اوكرانيا (نموذج ما قاله بوش وبايدن).
وإذا كان ما حدث للعراق قد غاب (لسبب ما) عن ذاكرة قضاة المحكمة الجنائية الدولية، فكيف يمكن ان تفسر المحكمة (العادلة) السكوت عن الجرائم التي ترتكبها قوات وحكومات الاحتلال الاسرائيلي يوميا في فلسطين المحتلة وضد الأطفال بالذات، وهؤلاء الابرياء يقتلون في كل ساعة في بيوتهم أو في مدارسهم، (يقتلون وليس ينقلون الى مكان آخر). وكم مذكرة توقيف اصدرت المحكمة الموقرة بحق رؤساء الحكومات الاسرائيلية ووزراء دفاعها أو قادة القوات الامنية فيها أو بحق المستوطنين الذين يحرقون بيوت الفلسطينيين الأبرياء فوق رؤوس ساكنيها يوميا؟.
لا أحد يمكن ان يبرر الحرب، اي حرب خاصة إذا كانت غير مشروعة، وأي انسان صاحب ضمير لا يقبل بتبرير سقوط ضحايا أبرياء من جرائها، ولكن المحكمة تعد نفسها دولية يجب ان لا تكيل بمكيالين، أو بصورة أدق يجب ان لا تغض الطرف عن جرائم بشعة وكبيرة جدا ضد الانسانية ارتكبتها الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل ومن يتحالف معهم، وتركز على جرائم أخرى لان الغرب يريدها ان تركز عليها لتسقيط من يختلف معه. علما ان الولايات المتحدة والغرب مسؤولون مسؤولية مباشرة عن تعريض الاوكرانيين للقتل اليومي من خلال العمل على اغراق أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة ورفض أية مبادرة لحل سلمي تفاوضي للمشكلة، لا لسبب غير انهم مازالوا يعتقدون بأنهم سادة العالم والقوة الوحيدة فيه، وان القوة التي يمتلكونها تمنحهم الحصانة ضد أي قرار بإدانتهم، ويبدو انهم لا يستطيعون ان يتصوروا ان هذا العهد قد انتهى، وان محاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها قادمة لا محال ومهما طال الزمن.